فصل: من فوائد ابن الجوزي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الأول: الكعبة وقد بينا معنى كونها سببًا لقيام الناس، وأما الثاني: فهو الشهر الحرام ومعنى كونه سببًا لقيام الناس هو أن العرب كان يقتل بعضهم بعضًا في سائر الأشهر، ويغير بعضهم على بعض، فإذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم وكانوا يحصلون في الشهر الحرام من الأقوات ما كان يكفيهم طول السنة، فلولا حرمة الشهر الحرام لهلكوا وتفانوا من الجوع والشدة فكان الشهر الحرام سببًا لقوام معيشتهم في الدنيا أيضًا.
فهو سبب لاكتساب الثواب العظيم بسبب إقامة مناسك الحج.
واعلم أنه تعالى أراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم الأربعة إلا أنه عبّر عنها بلفظ الواحد لأنه ذهب به مذهب الجنس.
وأما الثالث: فهو الهدي وهو إنما كان سببًا لقيام الناس، لأن الهدي ما يهدى إلى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه على الفقراء فيكون ذلك نسكًا للمهدي وقوامًا لمعيشة الفقراء.
وأما الرابع: فهو القلائد، والوجه في كونها قيامًا للناس أن من قصد البيت في الشهر الحرام لم يتعرض له أحد، ومن قصده من غير الشهر الحرام ومعه هدي، وقد قلده وقلد نفسه من لحاء شجرة الحرم لم يتعرض له أحد، حتى أن الواحد من العرب يلقى الهدي مقلدًا، ويموت من الجوع فلا يتعرض له ألبتة، ولم يتعرض لها صاحبها أيضًا، وكل ذلك إنما كان لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم البيت الحرام، فكل من قصده أو تقرب إليه صار آمنًا من جميع الآفات والمخافات، فلما ذكر الله تعالى أنه جعل الكعبة البيت الحرام قيامًا للناسي ذكر بعده هذه الثلاثة، وهي الشهر الحرام والهدي والقلائد، لأن هذه الثلاثة إنما صارت سببًا لقوام المعيشة لانتسابها إلى البيت الحرام، فكان ذلك دليلًا على عظمة هذا البيت وغاية شرفه. اهـ.

.قال القرطبي:

الشهر الحرام وهو اسم جنس، والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب، فقرر الله في قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يُروّعون فيها سِرْبًا أي نفسًا ولا يطلبون فيها دمًا، ولا يتوقعون فيها ثأرًا، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه.
واقتطعوا فيها ثلث الزمان، ووصلوا منها ثلاثة متوالية، فسحة وراحة ومجالًا للسياحة في الأمن والاستراحة، وجعلوا منها واحدًا منفردًا في نصف العام دَرَكًا للإحترام، وهو شهر رجب الأصَمّ ويسمى مُضَر، وإنما قيل له: رجب الأصَمّ؛ لأنه كان لا يُسمع فيه صوت الحديد، ويسمى مُنْصِل الأَسِنّة؛ لأنهم كانوا ينزعون فيه الأسِنّة من الرماح، وهو شهر قريش، وله يقول عوف بن الأَحْوَص:
وشهر بني أُميّة والهَدَايا ** إذا سيقت مُضرِّجها الدّماءُ

وسماه النبي صلى الله عليه وسلم شهر الله؛ أي شهر آلِ الله، وكان يُقال لأهل الحرم: آلُ الله، ويحتمل أن يريد شهر الله؛ لأن الله مَتّنه وشدّده إذ كان كثير من العرب لا يراه.
وسيأتي في «براءة» أسماء الشهور إن شاء الله.
ثم يَسّر لهم الإلهام، وشَرَع على ألسنة الرسل الكرام الهدي والقلائد فكانوا إذا أخذوا بعيرًا أشعروه دمًا، أو علّقوا عليه نعلًا، أو فعل ذلك الرجل بنفسه من التقليد على ما تقدّم بيانه أوّل السورة لم يرُوّعه أحد حيث لقيه، وكان الفَيْصل بينه وبين من طلبه أو ظلمه؛ حتى جاء الله بالإسلام وبيّن الحق بمحمد عليه السَّلام، فانتظم الدين في سِلكه، وعاد الحق إلى نصابه، فأُسندت الأمامةُ إليه، وانبنى وجوبها على الخلق عليه وهو قوله سبحانه: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النور: 55] الآية. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الألوسي:

{والشهر الحرام} أي الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة فالتعريف للعهد بقرينة قرنائه؛ واختار غير واحد إرادة الجنس على ما هو الأصل والقرينة المعهودة لا تعين العهد، والمراد الأشهر الحرم وهي أربعة واحد فرد وثلاثة سرد فالفرد رجب والسرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وهو وما بعده عطف على {الكعبة} فالمفعول الثاني محذوف ثقة بما مر أي وجعل الشهر الحرام {والهدى والقلائد} أيضًا قيامًا لهم، والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهي البدن خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر و«بهاء» الحج بها أظهر؛ وقيل: الكلام على ظاهره، فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي مجلز أن أهل الجاهلية كان الرجل منهم إذا أحرم تقلد قلادة من شعر فلا يتعرض له أحد فإذا حج وقضى حجه تقلد قلادة من إذخر، وقيل: كان الرجل يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف من أحد ولا يتعرض له أحد بسوء، وكانوا لا يغيرون في الأشهر الحرم وينصلون فيها الأسنة ويهرع الناس فيها إلى معايشهم ولا يخشون أحدًا، وقد توارثوا على ما قيل ذلك من دين إسماعيل عليه السلام. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {ذلك لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ الله بِكُلّ شيء عَلِيمٌ}
المعنى: أنه تعالى لما علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص الشديد على القتل والغارة وعلم أنه لو دامت بهم هذه الحالة لعجزوا عن تحصيل ما يحتاجون إليه من منافع المعيشة، ولأدى ذلك إلى فنائهم وانقطاعهم بالكلية، دبر في ذلك تدبيرًا لطيفًا، وهو أنه ألقى في قلوبهم اعتقادًا قويًا في تعظيم البيت الحرام وتعظيم مناسكه، فصار ذلك سببًا لحصول الأمن في البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، فلما حصل الأمن في هذا المكان وفي هذا الزمان، قدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه في هذا الزمان، وفي هذا المكان، فاستقامت مصالح معاشهم، ومن المعلوم أن مثل هذا التدبير لا يمكن إلا إذا كان تعالى في الأزل عالمًا بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات حتى يعلم أن الشر غالب على طباعهم، وأن ذلك يفضي بهم إلى الفناء وانقطاع النسل، وأنه لا يمكن دفع ذلك إلا بهذا الطريق اللطيف، وهو إلقاء تعظيم الكعبة في قلوبهم حتى يصير ذلك سببًا لحصول الأمان في بعض الأمكنة، وفي بعض الأزمنة، فحينئذ تستقيم مصالح معاشهم في ذلك المكان، وفي ذلك الزمان، وهذا هو بعينه الدليل الذي تمسك به المتكلمون على كونه تعالى عالمًا، فإنهم يقولون إن أفعاله محكمة متقنة مطابقة للمصالح، وكل من كان كذلك كان عالمًا، ومن المعلوم أن إلقاء تعظيم الكعبة في قلوب العرب لأجل أن يصير ذلك سببًا لحصول الأمن في بعض الأمكنة، وفي بعض الأزمنة، ليصير ذلك سبب اقتدارهم على تحصيل مصالح المعيشة، فعل في غاية الاتقان والاحكام، فيكون ذلك دليلًا قاهرًا وبرهانًا باهرًا، على أن صانع العالم سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات، فلا جرم قال ذلك {لّتَعْلَمُواْ} أي ذلك التدبير اللطيف لأجل أن تتفكروا فيه، فتعلموا أنه تدبير لطيف وفعل محكم متقن، فتعلموا {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} ثم إذا عرفتم ذلك، عرفتم أن علمه سبحانه وتعالى صفة قديمة أزلية واجبة الوجود، وما كان كذلك، امتنع أن يكون مخصوصًا بالبعض دون البعض، فوجب كونه متعلقًا بجميع المعلومات، وإذا كان كذلك، كان الله سبحانه عالمًا بجميع المعلومات، فلذلك قال: {وَأَنَّ الله بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} فما أحسن هذا الترتيب في هذا التقدير والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ذلك لتعلموا} {ذَلِكَ} إشارة إلى جعل الله هذه الأُمور قيامًا؛ والمعنى فعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أُمور السموات والأرض، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{ذلك} أي الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره.
ومحل اسم الإشارة النصب بفعل مقدر يدل عليه السياق وبه تتعلق اللام فيما بعد.
وقيل: محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الحكم الذي قررناه ذلك أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الحكم هو الحق والحكم الأول هو الأقرب، والتقدير شرع ذلك {لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} فإن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل الوقوع وجلب المنافع الأولية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع وإحاطة علمه سبحانه: {وَأَنَّ الله بِكُلّ شيء} واجبًا كان أو ممتنعًا أو ممكنًا {عَلِيمٌ} كامل العلم، وهذا تعميم إثر تخصيص، وقدم الخاص لأنه كالدليل على ما بعد.
وجوز أن يراد بما في السموات والأرض الأعيان الموجودة فيهما وبكل شيء الأمور المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قبيل المعاني والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)}.
حَكَمَ الله سبحانه- بأن يكون بيتُه- اليومَ ملجأ يلوذ به كل مُؤمِّل، ويستقيم ببركات زيارته كلُّ مائلٍ عن نهج الاستقامة، ويستنجح بابتهاله هنالك كلُّ ذي أَرَبٍ.
والبيتُ حَجَرٌ والعبد مَدَرٌ، والحق سبحانه ربط المدر بالحجر ليُعْلَمَ أنه الذي لم يَزَلْ لا سبيل إليه للحدثان والغير. اهـ.

.من فوائد ابن الجوزي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {جعل الله الكعبة} جعل بمعنى: صيّر.
وفي تسمية الكعبة كعبة قولان:
أحدهما: لأنها مربعة، قاله عكرمة، ومجاهد.
والثاني: لعُلوها ونتوئها، يقال: كعبت المرأة كعابة، وهي كاعب: إِذا نتأ ثديها.
ومعنى تسمية البيت بأنه حرام: أنه حَرُم أن يصاد عنده، وأن يختلى ما عنده من الخلا، وأن يُعضَدَ شجرُه، وعظمت حرمته.
والمراد بتحريم البيت سائِر الحرم، كما قال: {هديًا بالغ الكعبة} وأراد: الحرم.
والقيام: بمعنى القوام.
وقرأ ابن عامر: قيما بغير ألف.
قال أبو علي: وجهه على أحد أمرين، إِما أن يكون جعله مصدرًا، كالشبع، أو حذف الألف وهو يريدها، كما يُقصر الممدود.
وفي معنى الكلام ستة أقوال:
أحدها: قيامًا للدين، ومعالم للحج، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: قيامًا لأمرِ مَن توجه إِليها، رواه العوفي عن ابن عباس.
قال قتادة: كان الرجل لو جرَّ كل جريرة، ثم لجأ إِليها، لم يُتناول، [ولم يُقْرَب.
وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام، لم يعرض له ولم يقربه، وكان الرجل إِذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر، فأحمته ومنعته من الناس، وكان إِذا نفر تقلد قلادة من الاذخر أو من لِحاء السَّمُر فمنعته من الناس حتى يأتي أهله.
حواجز ألقاها الله بين الناس في الجاهلية].
والثالث: قيامًا لبقاء الدين، فلا يزال في الأرض دين ما حُجَّت واستُقْبِلت، قاله الحسن.
والرابع: قوام دنيا وقوام دين، قاله أبو عبيدة.
والخامس: قيامًا للناس، أي: مما أُمروا أن يقوموا بالفرض فيه، ذكره الزجاج.
والسادس: قيامًا لمعايشهم ومكاسبهم بما يحصل لهم من التجارة عندها، ذكره بعض المفسرين.